لا يرتبط البغاء بعصر معيّن كما لا يرتبط بفساد في الأخلاق أو باستنقاص من مكانة المرأة، بل إنه ظاهرة اجتماعيّة قديمة مرتبطة بطبيعة البشر وغرائزهم ومشاعرهم. ويوصف البغاء بأنه المهنة الأقدم في التاريخ، وهو استئجار أو ممارسة الجنس لقاء مقابل مادي، وفي الإنكليزية تشتق كلمة prostitute (عاهرة) من اللاتينية prostituere ومعناها (المفضوح علنا) في إشارة إلى الطريقة التي تُعلن بها البغايا عن أنفسهن حتى لا يتم الخلط بينهن وبين النساء الأخريات في روما القديمة.
البغاء وأسطورة الخصوبة:
في دراسة أعدّتها المؤرّخة الأمريكيّة ريبيكا دينوفا عن تاريخ مهنة البغاء في حضارات الشرق القديم نجد أنّ “ظهور هذه المهنة كان مرتبطا بما يعرف بـالبغاء المقدس، فالدين في جميع المجتمعات القديمة يرتكز على فكرة الخصوبة، خصوبة المحاصيل، خصوبة القطعان وخصوبة البشر أنفسهم. كانت هذه الفكرة ذات صلة وثيقة بعبادة الآلهة الأم في الشرق: إينانا في سومر، عشتار في بلاد ما بين النهرين بابل وآشور، حتحور وإيزيس في مصر، سيبيل في الأناضول، عشتروت في كنعان، ديميتر في اليونان، أفروديت في اليونان، وفينوس في روما.
هذه الآلهة كانت آلهة خاصة بالجنس والاستخدامات المثيرة للجسد والولادة والأطفال. يناقش الباحثون الطرق التي تم بها ترسيخ عبادة آلهة الخصوبة، في مفهوم يُعرف باسم البغاء المقدس أو بغاء المعبد، وهناك إشارات إلى هذا الأمر في الثقافات القديمة لحضارات العراق القديم، ومنه انتشرت هذه الأفكار في جميع أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط، ولعل البغاء المقدس هو مصطلح حديث اجترح في فترة ما بعد التنوير، ويعدّ مصطلحاً خاطئاً، حيث ساوى الباحثون بين خدم المعبد (رجالًا ونساءً) في طقوس الخصوبة هذه بالدعارة في حد ذاتها، والفارق كبير بينهما كما لا يخفى، ففي سومر القديمة مثلا -الملوك– أشباه الآلهة – يؤدون سنويا طقوس الزواج المقدس أو ما يعرف بـ(HIEROS GAMOS)، لكن التراتيل توضح لنا مشاركة الملك في سباقات الجري، ما يعكس فحولته ويثير الشك فيما لو كانت هذه الطقوس حرفية أو رمزية. الوصف الدقيق لهذه الممارسات جاء عبر هيرودوت (484- 425 قبل الميلاد) فقد كتب عن أسفاره إلى بابل: أن العادات البابلية الأكثر شراسة هي التي تجبر كل امرأة على الجلوس في معبد عشتار والجماع مع شخص غريب مرة واحدة في حياتها، لا يهم مبلغ المال الذي تتقاضاه إذ أنها لن ترفض المتقدم أبدًا، لأن الرفض خطيئة، والأموال التي يتم دفعها لهذا الفعل تصبح مقدسة، وبعد أداء واجبها المقدس للآلهة، تذهب إلى منزلها. (اشتهرت معابد أفروديت في كريت وكورنثوس أيضًا بهذه الممارسة، على الرغم من وجود الكثير من الانتقادات لهذه “الطقوس الشرقية” في الأدب الروماني، حيث يذكر المؤرخ اليوناني الشهير سترابو (2 ق.م)، أن “الآلاف” من هؤلاء النساء في معبد أفروديت -التي تطابق الآلهة العراقية عشتار- في مدينة كورنثوس، على الرغم من أن بناية المعبد لا يمكن أن تستوعب الكثير منهن.
البغاء في الأديان القديمة:
في مصر القديمة لا يرد سوى القليل جدًا عن البغاء، مصورات للولائم بوجود الراقصات والمغنيات، ولكن لا يوجد مؤشر يكشف عن وضعهن، لكن عوامل الجذب في المكياج والاختلافات في الشعر المستعار، وفساتين الكتان الشفافة التي تكشف الجسد الفاتن والوشم واضحة، إذ ما قورن مع نساء غيرهن، كان للنساء في مصر القديمة حقوق قانونية أكثر بكثير ويمكنهن العمل في مختلف المهن. لم تكن هناك مراسم للزواج في مصر. وهو ببساطة انتقال الأزواج للعيش معًا. وعند ظهور الديانة اليهودية، لم تكن الدعارة في إسرائيل القديمة خطيئة، فالقانون في شريعة موسى الخاصة بالزواج والطلاق قدم المرأة بوصفها نوعا من الملكية، حيث تكون المرأة ملكًا لوالديها ثم تسليمها في عقد الزواج إلى الزوج لتكون ملكاً له، أما الزنا فيعني التعدي على ممتلكات رجل آخر، وفي عالم خالٍ من اختبارات الحمض النووي، كان من الضروري أن تظل سلالات الدم واضحة. وما دام الزنا لا يتم بعقد، فإن ممارسة الجنس مع عاهرة لم تكن مخالفة للقواعد الاجتماعية، وعلى الرغم من ذلك ظلت البغايا في أسفل السلم الاجتماعي، وكان من بين الأسباب التي دعت الى تجنب ممارسة الجنس خارج عقد الزواج أن القدامى لم يكونوا يعرفون أن السائل المنوي لدى الرجل يتجدد مثل أي إفراز جسدي آخر. وكذلك، تذكر التوراة قصة تنكر ثامار، زوجة ابن يهوذا الكنعانية، في هيئة عاهرة على جانب الطريق لإغواء يهوذا حتى لا يموت نسله، وفي اللغة العبرية تعني المفردة “زوناه zonah عاهرة”، نجد أيضًا كلمة “قاديشه kedeshah” والتي تعني “منفصل” أو “مكرس”، وتستخدم في العادة لوصف النساء غير اليهوديات اللائي خدمن في معابد الخصوبة، فهناك إشارات إلى الذكور بكلمة يُطلق عليهم “قادش Kadesh”، التي تعني المعزول، أو يشار إليهم بـ”لوطيين”.
أما فيما يتعلق بالخصوبة، استخدم أنبياء بني إسرائيل الزواج والاستعارات الجنسية لإدانة الخطيئة الكبرى لعبادة الأصنام في الأرض، حيث قُدِّم الله على أنه العريس، وإسرائيل على كونها العروس التي ارتكبت الزنا بعد ذلك بالتحول إلى آلهة أخرى. وفي كتاب النبي هوشع (القرن الثامن قبل الميلاد)، أُمر بالزواج من جومر العاهرة التي رمزت لخطايا بني إسرائيل وفي كتاب حزقيال تظهر الإشارات البلاغية المكثفة، حيث يصف الرب التعامل مع الآشوريين والبابليين على كونه دعارة، وأن من فعل ذلك يشبه تصرف (العاهرة الوقحة)، أما في أثينا القديمة فكان البغاء قانونيا، إذ يمكن للمرء أن يجد المومسات في بيوت الدعارة والحانات وزوايا الشوارع والكثير منهن ينحدر من طبقة العبيد، كما كان شائعاً استئجار مومس من الدرجة العالية أو (هيتايرا) التي تعني المومس المتعلمة والتي تعمل كفنانة ومومس ومن هذه المومسات كانت فولومنا سايثريس (القرن الأول قبل الميلاد) ممثلة ورفيقة لماركوس أنطونيوس (من أهم مساعدي يوليوس قيصر) وبروتس (المشارك في اغتيال يوليوس قيصر)، أما برايسيا (السبعينيات قبل الميلاد) كانت رفيقةً للعديد من السياسيين المؤثرين، بما في ذلك بومبيوس الكبير وعرفت بتأثيرها في السياسة الرومانية، ومع ذلك، فإن العديد من النساء اللواتي يعملن كعاهرات عاديات كن عبيدًا أو عبيد سابقين، أي النساء اللواتي ليس لهن مكانة اجتماعية أو حقوق وامتيازات المواطنين، كان العبيد في المقام الأول ملكا لأسيادهم، ومع ذلك فان لدى روما قانونا خاصا يعرف بـ(ne serva) يمنع على المالك الجديد أثناء نقل ملك العبد توظيفه في مجال تجارة الجنس والبغاء.
البغاء في الفنّ الإغريقي:
في كوميديات بلاوتوس وأشعار هوراس وأوفيد وجوفينال، استخدمت العاهرة كشخصية محورية، ففي روما القديمة كانت البغايا تعمل في الشوارع بمفردهن، أو يمكنهن استئجار غرفة عادة ما تكون فوق الحانة، وكانت النساء اللاتي يعملن نادلات في الحانات مرتبطات دوماً بالبغاء ووفقاً لقانون روما كان يجب تسجيل المومسات لدى Aedilis وهم إداريون ينتخبون في كل عام للإشراف على الأنشطة التجارية، وصيانة بيوت الدعارة والحمامات المسجلة وشروطها الصحية، إذ كانت الحمامات العامة مناطق يمارس فيها البغايا تجارتهم أيضًا، وخلال ثلاثينيات ما قبل الميلاد، كان على البغايا دفع الضريبة. وتحضر البغايا الرومانيات دوما في المهرجانات الدينية في الإمبراطورية الرومانية حيث يتجمهر القادمون من القرى القريبة، وهذه المناسبات تشكل فرصة لتحقيق أرباح إضافية. وتتضمن المهرجانات العديد من الألعاب والمسرحيات وسباقات العربات، وحين تنتهي هذه الفعاليات تنتظر البغايا الحشود التي تغادر المدرج كل مساء. في مكان ما تحت الأقواس – الكلمة اللاتينية fornix (تعني الأقواس)، ومنها اشتقت كلمة fornication التي تعني الدعارة، الفسق، البغاء، أما كلمة lupanar فتعني المبغى إذ أنها مشتقة من اللاتينية lupa التي تعني “هي الذئب”، وقد تم العثور على أثار أشهر مبغى في أنقاض المدينة الرومانية بومبي.