خصوصيّة الجالية العربيّة:
تنعت الولايات المتحدة الأمريكيّة، عادة، بأنها الدولة الأكبر في العالم، وهي ذات التأثير الأقوى خارجيّا. وبما أنّ النسيج الاجتماعي لهذه الدولة يقوم على تعدّد الأعراق والجاليّات القادمة إليها من مختلف أنحاء العالم منذ عشرات السنين، فإنّه من الطبيعي أن تتشكّل داخلها لوبيّات تكون قادرة على التأثير الخارجي في علاقة بسياسات بقيّة الدول. وهذه اللوبيّات القائمة أساسا على وحدة العرق أو الدين تقوم بخدمة مصالح بلدانها الأصليّة في الداخل الأمريكي، وهنا كثيرا ما يتساءل البعض: هل هناك لوبيّ عربيّ داخل الولايات المتحدة الأمريكية وهل هو قادر على خدمة المصالح العربيّة المشتركة؟
تتمثّل خصوصية الجالية العربية في أمريكا في كون أفراد الجالية الذين هم أبناء ثقافة واحدة ينتمون إلى دول عربيّة متعدّدة، ويأتون إلى أميركا التي هي وطن وبلد واحد لكن يقوم على أصول ثقافية متعددة. ولهذه الخصوصية انعكاسات مهمة جداً على واقع ودور العرب في أميركا. فهم بنظر المجتمع الأميركي – وحتى المنطقة العربية- “جالية واحدة” بينما واقع الأمر أنهم يتوزعون على “جاليات” عربية. وتنشط غالبية الجمعيات من خلال تسميات خاصة بالأوطان، بل بعضها يحصر انتماءه في أطر مناطقية من داخل البلدان العربية. وقد أدت هذه الخصوصية إلى كثير من المعضلات في دور العرب على الساحة الأميركية. فالتسمية النظرية: جالية عربية، بينما الواقع العملي في معظمه هو تعدد وانقسام على حسب الخصوصيات الوطنية أو المناطقية أو الطائفية أحياناً، إضافة طبعاً للصراعات السياسية التي تظهر بين الحين والآخر.
ورغم مضي أكثر من قرن على بدء الهجرة العربية لأميركا، فإن واقع العرب في هذا البلد استمر كمرآة تعكس حال العرب في البلاد العربية. ولم يستفد العرب في أميركا بشكل عميق من طبيعة التجربة الأميركية التي قامت وتقوم على الجمع بين تعدد الأصول الثقافية والعرقية، وبين تكامل الأرض والولايات في إطار نسيج دستوري ديمقراطي حافظ على وحدة “الأمة” الأميركية وبناء دولة هي الأقوى في عالم اليوم. ولعل “النموذج الأميركي” في كيفية فهم “الهوية الأميركية” واستيعاب هذه الهوية لتنوع ثقافي وإثني وديني هو ما تحتاجه البلاد العربية في تعاملها مع مسألة الهوية العربية.
وفي ظل “البيئة العربية الانقسامية” السائدة بين العرب في أميركا، بدأت تجربة بعض المؤسسات المدنيّة والجمعياتيّة ومنها “مركز الحوار العربي” في واشنطن (تأسس المركز عام 1994) من خلال أنشطة متعددة وحوارات دورية أسبوعية لتشجيع العرب على أسلوب الحوار فيما بينهم بغض النظر عن اختلافاتهم الفكرية والسياسية، وعن خصوصياتهم الوطنية والدينية والإثنية. فالعرب يشتركون في ثقافة عربية واحدة لا تقوم على أصل عنصري أو إثني، ولا يختصّ بها أبناء دين دون آخر.. ثقافة عربية هي الآن الرمز الوحيد الباقي فاعلاً للتعبير عن انتماء العرب إلى أمّةٍ واحدة.
لقد حرصت تجربة “مركز الحوار العربي” منذ تأسيسها على الاهتمام بالشأن الفكري والقناعة بأنّ وجود تعددية فكرية في أي مجتمع تتطلب أيضاً تعددية سياسية في حياته العامة. فوحدة الانتماء الحضاري ووحدة الانتماء الثقافي لا يجب أن تعنيا إطلاقاً وحدة الانتماء الفكري أو الانتماء السياسي.. ولا يجوز أن يكون اختلاف الفكر والتوجه السياسي سبباً للخلاف بين الأشخاص أو لصراعات عنفية بين الجماعات في المجتمع الواحد.
تغيير الصورة النمطيّة:
صحيح أنّ هناك العديد من الحاقدين في الغرب عموما وفي أميركا على العرب والمسلمين، لكن هناك أيضاً الكثير من أبناء أميركا والغرب الذين يريدون معرفة الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود. وكما تلقَّت الجمعيات والمؤسسات العربية والإسلامية في أميركا التهديدات ورسائل الشتم من بعض الأفراد الأميركيين، كذلك تلقَّت من مواطنين آخرين العديد من مظاهر الدعم والتأييد والتضامن والرسائل التي تسأل عن ماهيَّة الإسلام والمسلمين والعرب، وترفض أسلوب الحقد العنصري ضدَّهم وضدَّ دينهم وثقافتهم.
ويجب أن يعمل العرب والمسلمون المقيمون في أميركا والغرب على تعميق معرفتهم بأصولهم الحضارية والثقافية وبالفرز بين ما هو “أصيل” وما هو “دخيل” على الإسلام والثقافة العربية. وكذلك، من المهمّ التشجيع على أسلوب الحوار الدائم بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية في أميركا والغرب، وبين غيرها من المؤسّسات في هذه المجتمعات، إضافةً إلى الحوار المباشر عبر وسائل الإعلام والإنترنت وباللقاءات الخاصَّة. هي مهمَّة مزدوجة الآن أمام العرب والمسلمين في أميركا والغرب: تحسين وإصلاح الواقع العربي بشكلٍ متزامنٍ مع تحسين وإصلاح “الصورة”، وبناء الذات السليمة مع بناء المعرفة السليمة لدى النفس ولدى الآخر.
فالمرحلة الآن – وربّما لفترةٍ طويلة – هي مرحلة إقناع المواطن الأميركي والغربي عموماً، بمن نكون “نحن” أكثر ممّا هي “ما الذي نريده”، وهي مرحلة تضعنا أمام خيارين: إمَّا السقوط أيضاً مع الغربيين في فخِّ نظرية “صراع الحضارات” و”الخطر الإسلامي” القادم من الشرق، أو محاولة انتشال بعض هذا الغرب من هذا الكمين الذي يستفيد منه أعداء العرب والمسلمين.
تحديات يجب مواجهتها:
لقد جاء العرب إلى أميركا من أوطان متعددة ومن بلاد ما زالت فيها الديمقراطية تجربة محدودة. إضافة إلى آثار الصراعات المحلية في بلدان عربية على مسألة الهوية العربية المشتركة. إضافة لذلك، علينا أن نميز بين “الأمريكيين من أصول عربية”، وهم أبناء الجيل المهاجر الأول الذين اندمجوا كلياً في المجتمع الأميركي، وبين “العرب الأميركيين” وهم أبناء الأجيال التالية التي لم تذب تماما ولكنها مندمجة بقوة في الحياة الأميركية، وهناك أيضاً “عرب في الولايات المتحدة” وهؤلاء هم المهاجرون الجدد الذين لم يصبحوا بعد من المواطنين الأميركيين حيث ما زالت أولوياتهم تتمحور حول أوضاعهم المعيشية والقانونية، ويصرفون وقتهم في مسائل تثبيت الوجود وليس البحث عن دور فعال في المجتمع الجديد. وبينما نجد أغلب الفئة الأولى أي “الأمريكيين من أصل عربي” بدون تواصل مع البلاد العربية الأم، نرى أن الفئة الأخيرة (أي المهاجرون الجدد) غير متواصلة مع المجتمع الأمريكي، ولكل من هذه الفئات طبيعة علاقة مختلفة مع المجتمع الأمريكي والمؤسسات العربية فيه.
أضف على ذلك أيضاً، تعدد الانتماءات الدينية والطائفية في الجالية العربية. البعض مثلا يندفع نحو منظمات دينية وهو ما يستبعد النصف الآخر من الجالية العربية. وبعض الجالية يتقوقع مذهبياً وعائلياً سواء بسبب منطلقات خاصة به أو انعكاساً لما يحدث في المنطقة العربية. فالجالية العربية والجالية الإسلامية تنتميان إلى أصول وطنية ودينية متنوعة، إذ أنَّ حوالي نصف تعداد الجالية العربية هم من أتباع الديانة المسيحية، وينتمون في أصولهم الوطنية إلى بلدان لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والأردن، بينما أكثر من نصف عدد الجالية الإسلامية (حوالي 7 مليون) ينتمون في أصول أوطانهم إلى بلدان غير عربية (من بلدان آسيا وأفريقيا غير العربية) إضافةً إلى عددٍ من الأميركيين الذين اختاروا الإسلام ديناً لهم ومعظمهم من الأميركيين السود. إذن، كلما كان هناك تعاون وتنسيق بين أبناء الجاليتين العربية والإسلامية، وكلما كان هناك طرح لفكر عربي سليم فيما يتعلق بمسألة الهوية الثقافية ومضمونها الحضاري، بمقدار ما تستطيع الجالية العربية أن تنجح عملياً وتتجاوز الكثير من الثغرات والعقبات لصناعة لوبيّ عربيّ قويّ في أمريكا يكون قادرا على الدفاع عن المصالح العربيّة المشتركة مثلما تفعل بعض اللوبيات الأخرى المترسّخة منذ القدم في المجتمع الأمريكي.